الموسيقى السودانية هل تقودنا محاولات العولمة للتدمير؟ حول محاولات التحديث والعولمة للموسيقى السودانية
هاشم خوجلي
الجزء الرابع هل وطننا بلا هوية
هويتنا في موسيقانا خلصنا سابقا إلى أن السلم الموسيقي الذي يستخدمه السودانيون في موسيقاهم هو السائد في الأغلب والأعم من العالم، ورغم ذلك ظل كثير من الحادبين يطرحون تساؤلا عن أسباب عدم انتشار موسيقانا في العالم العربي القريب منا، ولعلي أخلص لإجابة غاية في البساطة، رغم رفض العموم لها، ولن أطيل فيها كي لا تقود الموضوع لغير ما خص له، والإجابة هي أن السودانيين ليسوا عربا والسودان ليس دولة عربية، رغم ما يدعيه بعضهم، بل هم زنوجا أفارقة وفراعنة نوبيين تعلموا اللغة العربية فبزوا الأعراب وفاقوهم علما وتحدثا بها، ولهجاتنا العامية الدارجة تشهد على ذلك، ومن إدعى من العرب أن الكلمات في أغانينا غير مفهومة، وهم غالبا يفعلون، فإني أردها لعدم تمكنهم، وهم العرب دوننا، من فهم اللغة العربية وتناولها كما فعلنا وأجدنا، وهو فضل نمتاز به أهل السودان على عموم الناطقين بالعربية. إذن فتفرد موسيقانا عن موسيقى العرب يعود إلى أننا لسنا عربا، فالموسيقى إحساس وتذوق ينتقل مع الجينات التي نتوارثها عن أسلافنا، ويحفزها تراثنا وموروثاتنا، فإن إختلت إختل التراث وتلاشى، وإن بادت أخذت معها هويتنا وروحنا وتميزنا، وإن تلاشى تراثنا واندثر، ماتت هويتنا وتفرق كمنا بين الأمم دون أن يكون لنا من يندب حظنا، وهذه البدايات تلوح جلية في الأفق، فقد تم غزونا بالثقافات الغريبة، من عربية وغربية، وبدأ نتاج الغزو يطغى على موسيقانا وأغنياتنا.
نحن أهملنا مابال الموسيقى الصينية، مثلا، غير منتشرة بغير مناطقها، والصينيون يمثلون قرابة تسعة عشر بالمائة من سكان العالم، أما كان من الأحرى انتشار موسيقاهم لتعم العالم وتجتاحه بدلا من المد الغربي الذي يغمرنا؟! أنا أرجع ذلك لإنغلاق الصين على دواخلها حينا من الدهر، أما الآن فهم يحثون الخطى لتعريف العالم بثقافاتهم، ويربون نشأهم على تراثهم وما ترك آباؤهم. أما عنا فقد اجتاحنا الأقوى، ففرض علينا المستعمر علمه وثقافته وطرح حضارة لا ننتمي لها ولا تشبهنا، وحارب فينا كل ما هو أصيل يعبر عنا وعن تراث أجدادنا وماضينا التليد، ثم زدنا من عندنا أن نعتنا بالجهل والتخلف كل من رفض هذه الثقافات الدخيلة أو حاول الوقوف في وجهها رفضا أو محاربة، ووصفنا بالعلم والتطور من لبس ثوبهم وجرى مجراهم، ولكنه لم يجد ضالته حين احتضنا أصولنا ومعها تعلمنا ما عرضه علينا، أما الآن فها نحن نرخي قبضتنا على أصولنا ونبحث عن ثقافات الآخرين، ولم يختلف المقيم بأرضه عن من تغرب عن وطنه منا، وأعني من عاش حينا في دول الخليج العربي، فتشبع بثقافاتهم المجلوبة، أو هاجر لدول الغرب المتسلط، وحاكي الغربيين، ولم ينج من هذا الطوفان أمي أو متعلم، فكلنا فيه سواء، إذ لم يلتفت لتربية أطفاله تربية وطنية سديدة أي منا، فمن فهمنا الخاطئ إعتبرنا الموسيقى والغناء وكافة الفنون من توافه الأمور وسقط المتاع، ذات الأهمية الدنيا في حياة أطفالنا وشبابنا، فنشأوا لا يعرفون غير الأغاني العربية والخليجية والألحان الغربية الدخيلة علينا والغريبة على مجتمعنا، التي لا تربطنا بها أي وشائج، ولا تعبر عن تاريخنا ولا تحمل داخلها تراثنا، وأهملنا تعليمهم سير وحياة من بنوا صروحنا وحملوا همومنا، فكبر صغارنا وتاريخ السودان وتراثه يكاد لا يعني لهم شيئا، إلا ما يفرض عليهم في بعض المناهج الدراسية الفقيرة من الوطنية الخالية من معاني الإنتماء، وليس ذنبهم ولكن ذنب جيلنا الذي أهمل فيهم وهم صغار يستوعبون ويتشربون المعرفة، وها نحن نعيش الآن مغبة ما أهملنا، ونجني حصاد ما زرعنا.
تقليد الغناء الخليجي من مغبات إهمالنا لتربية النشء تربية وطنية سديدة إنتشار ظاهرة التقليد الأعمى والغناء بالألحان بل وباللهجات العامية العربية والخليجية، وهو ما نتج عن إهمال الآباء والأمهات السودانيين المقيمين في دول الخليج، ونسيان أهلهم وانشغالهم عنهم بسبل العيش، فحين يعود أبناؤهم للسودان شبابا ومراهقين يكونوا قد تشبعوا بكل الروح والشخصية العربية الخليجية، وضاع أمر تربيتهم بأساسيات الوطنية، وتم نسيانه كليا، وذلك لظنهم أن الموسيقى والفنون قد تلهي أبناءهم عن التحصيل والعلم، ونسوا أن يزرعوا فيهم صلب التراث القويم الذي تحدر إلينا من آبائنا وأجدادنا، أما من كان أهلهم مقتدرون فاقتنى آلة موسيقية تسهل عليهم نقل هذا اللون من الغناء الذي لا ينتمي لنا ولا نمت له بصله، فقد ساهم وأهلوه بدق مسمار لولبي في نعش ثقافتنا وفنوننا وتراثنا التليد وقادوه خطوة نحو الفناء المحتوم، وما أصدق الشارع السوداني حين أطلق عليهم بعفوية ودقة صفة شهادة عربية، كناية عن البعد عن السودان والتربية السودانية الصميمة التي تدين للشارع والجار والحي بدور مهم فيها وتؤكد عدم عروبة السودان الذي يصف شارعه بكل توحد من يتهمهم بالنقص بأنهم شهادة عربية.
غناء الراب واحدة من كبرى الأثافي ما أسماه هؤلاء المستقرون الشباب الجدد غناء الراب أو الهيب هوب، ولمن يتشدقون بأنهم يغنون راب، فأنا أتبرع لهم بهذه المعلومة عن الراب، حتى لا يتعاملوا مع شيء لا يعلمون أصله ولا ماهيته، وبالذات حتى لا يظنوا أنه فن سوداني، فهو ليس سودانيا ولا عربيا ولا حتى إفريقيا، إنما أصل الراب أهازيج للشكوى من سوء الحال، بدأت في حقبة السبعينات حين كان المستوطنون الجامايكيون الفقراء المضطهدون من قبل الأمريكان، يشكون حالهم وسؤ أوضاعهم لبعضهم بكلمات إيقاعية موقعة تتخذ شكل لحن بسيط جدا، ولكنها لا ترقى إلى أن تسمى غناء، وكانوا يخفون ما يقولون لتكون الكلمات غير مفهومة إلا لهم، أي في شكل همهمات متكررة، خوفا من بطش الأمريكان إن فهموا ما يقال، تلك حقيقة وأصل الراب، إذن لماذا نحاكيهم وقد فرضت عليهم ظروف حياتهم البائسة أن يشكوا حالهم في العلن المخفي، خوفا ورهبة من البطش والعقاب.
إعلام الفضائيات شاعت وعمت الفضائيات التي لا تهتم بالسودان ولا وطنية السوداني، ولا تهمها الفنون الأصيلة الهادفة البناءة، بقدر اهتمامها بالكسب المادي، ولا تهتم بالفن الراقي المعافى، بل تأتي بمن لها بهم صلة ومعرفة وتقدمه على أنه فنان وموسيقي ذو باع، وكل ما يملك هو أذن صماء لا يسمع بها ما يحدث من ضوضاء، وحوله مرتزقة يلملمون فتات أموال يجود عليهم بها نظير دعمه والهتاف له، وهو أول من يضطهدهم ويحتقرهم، فكل الولاء له مشترى بمال قذر ملوث بدم الفن القتيل. لقد ساهمت الفضائيات بالدور الكبير في نسيان جيلنا الناشيء جذوره وماضيه وتراثه التليد. الأمثلة كثيرة، فالموسيقى شرقية والأغاني غربية، حتى أنهم يتشدقون ملء أفواههم بإتقان الراب السوداني، والسيرة الخليجية، وكل هذا يمر تحت أنوفنا ورغمنا دون أن نكترث له، فعلى سبيل المثال، ما بال البرامج وما تقدم محطات التلفاز من مختلف إذاعاتها، تصاحب غالبا بالموسيقى والمقدمات الأجنبية، شرقية وغربية، مالها موسيقانا؟ لماذا لا نصحبها بموسيقى من واقعنا وألحان تصور بيئتنا، ماله غناؤنا ومالها ألحاننا؟ إنهم يظنون أنه التطور والتقدم والعالمية، وهم واهمون، فأنا على يقين أنه جد التخلف والتبعيىة والدونية والإحساس بالصغار. إن أدار أينا مؤشر التلفاز لأي قناة عربية أو غربية من القنوات المنتشرة، ودأب على مشاهدتها طيلة أربع وعشرين ساعة، فأنا أجزم أنه لن يرى ولن يسمع أي شيء سوداني ولا أي نغمة تعود لغير البلد الذي تبث منه القناة، وهنا تكون الدرجة العليا لخلق روح الوطنية، فمن حقنا على القائمين على أمر القنوات، رسميين وغيرهم، ألا يفرضوا علينا رؤيتهم الشخصية المشوشة أو رؤية إداراتهم الرسمية المغشوشة، وإن كانوا يريدوننا أن نسمع ونشاهد أشياء من غير بلدنا، فليتركوا لنا الخيار لندير القناة للبلد الذي نريد، ولا يفرضوا علينا أشياء تسهم في إنقاص إحساسنا بالوطن، حتى يبقى تلفازنا سودانيا صميما وتبقى قنواتنا وطنية بحق، فدور الإعلام دور فعال، إيجابا كان أو سلبا، ووطنيتنا وأجيالنا الناشئة منوط بها لحد كبير دور الإعلام، لذا لابد من صحوة واستفاقة، وإن استدعى الأمر صفعة مؤلمة، فليكن.
النقد الفني صار النقد الفني بلية في حد ذاته، فما يحدث اليوم هو أن الناقد النافذ يتقاضى أجرا جاريا ومعلوما من المغني، وهو من يسمى خطأ بالفنان، كي يكتب عنه، بل يفتعل له المناسبات حتى يتردد اسمه في المحافل والفضاءات الفنية ويذكر كثيرا. إن النقد الحق ينبني على أساسيات لا تتوفر لنقادنا الحاليين، إلا النذر اليسير منهم، كي لا أظلم الصادقين، فالناقد يحمل قلما يبني ويهدم ما شاء له، فيجب إذن أن يكون ملما بدقائق الموضوع الذي يتحدث عنه، إن كان سياسيا فيجب أن يكون ملما بالسياسة مثل أهلها، وإن كان رياضيا فلابد له من معرفة دقائق الرياضة التي يتحدث عنها، وكذا إن كان فنيا موسيقيا فلابد من إلمامه بدقائق الفنون التي يتناولها، فأنا مثلا لا أتقبل نقدا من شخص يقل عني في مجالي الذي أتقنه، إذ كيف له نقد أعمالي، مدحا أوذما، وهو لا يفهم عن موضوع حديثه إلا مثل ما يفهم المتلقي العادي، فما بالك بمن يجندون أقلامهم وألسنتهم لقاء جعالات يتقاضونها. لذا فقد صار النقد الآن من أساسيات البلاء الذي عمنا. أصلحوا نقادنا ينصلح حالنا.