تهيأ لي أن أتابع بعضا من البرامج التي تبثها بعض قنواتنا الفضائية، وضمنا رأيت واستمعت لبعض شبابنا، فتيانا وفتيات، وهم يؤدون أنماطا من فن الغناء، وقد أجزت لنفسي تسميته فنا مجاراة لهم لأنهم يقدمونه .على هذا الأساس
لست بصدد الهجوم على أي جهة، ولا بصدد إعفاء نفسي من المسئولية، فكلنا راع وكلنا مسئول عن رعيته، وأنا أفخر مثل معظم جيلي، بأني قد استقيت الفنون من أصولها، منهم من عاصرت ومنهم من استقيت أخبارهم وتنشقت رحيقهم بعد رحيلهم نقلا عن جيل عايشهم، وكان استماعي للجبال الرواسخ الذين مجدوا السودان ونحتوا اسمه على جذور التاريخ، فبقيت أسماؤهم ما بقي الزمن، دلالة على الفن الأصيل وحب الوطن والولاء المطلق لعزه وشموخه وعلوه، ولكني رغما عن ذلك لم أقم بتأدية دوري في تثقيف النشء وإثراء معرفته بوطنه وتراثه وفنونه، التي تتميز على كافة فنون أهل الأرض، لم أقم بتأدية دوري على الوجه المنشود، وهاهي النتيجة، أن قد طفح الكيل، وغض الطرف لن يفيدنا فالطريق الذي نسير فيه أضحى .واضحا، وهو يقود لانحدار وتردي لا يعلم مداه إلا الله
منذ عدد من الأعوام ليست بالكثيرة إنتشرت ظاهرة الغناء العربي في المناسبات السودانية، وأعني بالتحديد الغناء المصري والخليجي وأشباهه، وياليته غناء محترما راقيا، فأغلبه غناء مترد وهابط، فسيرة العرسان على سبيل المثال، صارت تقودها فرق من الدفوف، تؤدي كلمات ما أنزل بها من سلطان، وهي لا تنتمي لتراثنا ولا هي من عاداتنا، فالدف عندنا مربوط إما بالغناء النوبي من صميم شمالنا، مصحوبا بلهجاتنا التي نسميها كأهل الوسط "رطانة"، أو بترانيم الصوفية وإيقاعات الذكر، وهما من أكثر ما نعتز به من موروثات نفاخر بها العالم بل نصدرها له بكل عزة وشمم. مالها "العديل والزين" وما بها "السيرة مرقت عصر"؟! هل أضحت قديمة أو بالية؟ لو سلمنا بذلك فأتونا بالجديد، وهاتوا ما لديكم يا شباب اليوم، وساهموا بوضع لبنات جديدات تشد أزر تراث السودان وتساهم في امتداد مجده الأصيل الذي لم يحز عليه صدفة ولا جاءه سهلا، وسوف تكسبون على أقل القليل إحترامنا وتقديرنا كجيل عاصركم وعاصر من سبقكم، ولكن لا تستسهلوا الأمور وتستجلبوا ما تستشينكم عليه الأمم الأخريات، وتجعلكم مصدر ضحك ومحط استهزاء، لأنكم حين فشلتم في المحافظة على تراثكم، ناهيكم عن تجديده وتحديثه أو إثرائه، لجأتم لتقليدهم وفقدتم بذلك حتى .فرصة احترامهم لكم وبالتالي لنا غلبت على احتفالات التخريج في الجامعات، وهي مراكز العلم ومصادر إشعاعات الثقافة وتوالدها وتطورها، غلبت الإيقاعات المستوردة من الشمال، خارج الحدود، كأن كل ما لدينا من إرث ثقافي تليد، والذي لو فرش على طول البسيطة لغطاها ببساط من السحر والعراقة والأصالة، كأن كل هذا لم يكفهم فأتى النشء، هداهم الله، بأشياء لا نفهمها، ولا هي منا ولا نحن منها، وحاولوا فرضها علينا، وأطلقوا عليها أسماء سموها. والأن صار بعض شباب اليوم الذين يقدمون أنفسهم على أنهم مغنون، يقولون على رؤوس الأشهاد أنهم لا يعرفون كيف يغنون "سوداني"، والله إن هذا هو العجب العجاب، وإن سألتهم ماذا يعرفون أجابوك "خليجي، أو شرقي، أو غربي"، أما إن أصررت وفرضت عليهم الغناء "السوداني"، فيقولون وبكل بساطة وعدم اهتمام أنهم "سيحاولون"، وإن تجرأت وسألت أحدهم عن جنسيته، يجيبك وعيناه تبرق تعجبا "سوداني!". ما هذا التناقض يا شباب السودان؟!
وثالثة الأثافي هي ما يشير اسمه إلى أنه لا يمت لتراثنا ولا لأصالتنا ولا لعروبتنا، إن كنا عربا، ولا لإفريقيتنا التي صرنا نود نكرانها، بصلة، وهو ما يسمى بـ"الراب"، وإن سألتم عن كلمة "راب" فهي كلمة أعجمية تعني مجملا "لف أو ملفوف" أي أن هذا الغناء هو شيء ملفوف في قالب من الإيقاع والكلمات التي تتوافق نهاياتها مع الإيقاع وتنتهي غالبا بنفس المخرج الصوتي، فليس هنالك شعر، لا ولا لحن، بل ولا غناء، ولا يهم إن كان صوت المؤدي جميلا أو جيدا، أو هو فظ ثقيل على الأذن، فهو فقط "يلفظ" كلمات تقال بمصاحبة نبرات .إيقاعية، ولهذا السبب يسمى من يقدم هذا النوع "رابار" أي مؤدي "راب" وليس مغنيا
يرجع أصل الراب إلى موسيقى "الهيب هوب"، وهي تنتمي أصلا إلى ثقافات "جامايكية" أمريكية اختلطت بها لاحقا ثقافات زنجية تفرعت عنها الإيقاعات الأولى "للراب" أوائل السبعينات من القرن الماضي، أما الإيقاعات الحديثة فقد إبتدعها أحد المهاجرين من "جامايكا" إلى "أمريكا" في أوائل السبعينات، ويدعى "كول هيرك" ولجأ لها حين لم يجد عملا وطالت معاناته مع البطالة والفقر، فانتشرت وعمت أوساط الفقراء والملونين من الأمريكيين، خاصة السود والقادمين من أمريكا الجنوبية، الذين اتخذوها متنفسا لهم ومنبرا يعبرون عبره عن معاناتهم والظلم الطبقي الذي يعيشونه، فمالنا نحن وهؤلاء؟ هل نطمس ماضينا التليد وموروثاتنا الثرة وتراثنا الغني، ونتبع ما لا يمثل أمامنا غير ثقافة الآخر، والتي لو طال عمرها وغبر في .التاريخ، ما تعدى المأتين من السنين، عجبا وأشد العجب
نصيحتي لبناتي وأبنائي الشباب، يامن تودون أن تعبروا عن مشاعركم وما يجيش داخل وجدانكم عن طريق الغناء، أنصحكم بأن تسلكوا الطريق الأسهل، وتتبعوا الطريق الأمثل، أنصحكم بأن تتمسكوا بتراثكم وتدافعوا عن هويتكم "السودانية"، التي سوف تنوء ظهوركم بثقل وزرها إن تماديتم في ما أنتم عليه متناصرون. مالنا نحن والعرب والخليج؟، ثم مالنا والغرب وإيقاعاتهم المستوردة من كل أنحاء العالم، ولدينا ما يغنينا ويفي بحاجاتنا وحاجاتهم، لو شئنا. هل ينقصنا ما يسمى بالسلم السباعي؟ كلا، فغربنا يعج بآلاف الآلاف من الأغنيات التي تستخدم كل النغمات في السلم الموسيقي، فألجأوا إليها، هل تريدون إدخال ما يسمى بالنغمة السادسة في خطنا ذي الخمس نغمات؟، ما أسهل ذلك لو انتقلتم جنوبا ونهلتم من تراثنا الثر، فلديكم في بلدكم الغني بكل شيء، كل شيء، كل النغمات، كل أنواع الموسيقى، ومجازا، كل السلالم الموسيقية. هل تستسهلون غناء الكلام الردئ الذي لا يرقى لمثلنا وقيمنا التي تربيتم عليها ونشأ عليها آباؤكم؟، فليكن ذلك بألحان سودانية وكلمات من واقعكم، فعلى أقل القليل ستكون مفهومة للكل، لأنكم والله جعلتم ما كنا نسميه غناء هابطا، في أعلى مدارج السمو، مقارنة بما أجزتم لأنفسكم تقليده من مسوخ، حتى لدى أهلها وذويها، فعلى الأقل يتميز ما تعارفنا على أنه غناء "هابط"، بأنه ذو هوية سودانية، ويحمل صبغته الوطنية. حاسبوا أنفسكم .إن كنت "فنانين" بحق هي كلمة غص بها حلقي طويلا، وقد خرجت الآن، فهل بلغت؟