ما هو السلم الموسيقي، ما هو السلم الخماسي، ما هو السلم السباعي؟ كم عدد النغمات التي يمكن استخدامها عند التعامل مع كل من السلمين؟ وما تأثير تراثنا وقوميتنا وهويتنا السودانية على سلمنا الموسيقي؟ وما هو دور الوطنية وروح الإنتماء للسودان تأثيرا على سلمنا وتأثرا به؟ وهل حقا أن السلم الخماسي ناقص موسيقيا؟ وهل السلم السباعي هو المقياس للتطور؟ ثم ما مدى حاجة الأغنية السودانية للتطوير؟
قائمة التساؤلات طويلة وقائمة الإفتراءات أطول، وسوف أحاول تناول هذا الموضوع من زاوية لم يتم تداولها من قبل، من الناحية الفنية، زاوية الهوية السودانية الضائعة التي بدأت تذروها الرياح، زاوية الوطنية التي ما فتئنا نتبجح بها ونحن نعمل على دفنها وقبرها، ثم من زاوية المستمع العادي الذي يتمتع بحس موسيقي طبيعي بسيط، وهذا ليس بالهين، إذ هو مستمع عادي لا يملك ثقافة أو معرفة موسيقية تؤهله مقارعة مدعي المعرفة، أو الخوض في خبايا النغمات والتركيبات النغمية والسلالم الموسيقية وأنواعها وتفرعاتها.
كثر الحديث وتردد عن السلم الخماسي، وهو ما نستخدم في موسيقانا، وأنه أساس تقوقعنا داخل مجتمعنا وعدم انتشار موسيقانا ومعرفة العالم لها، وادعى البعض أن تحويل الموسيقى السودانية للسلم السباعي، فيه الخلاص والفكاك لفرد أجنحة موسيقانا لتجوب العالم قاطبة، بل حاول بعضهم إدخال نغمات إضافية ليكون مجموع النغمات المستخدمة سبعا، ولكن هزمهم سلمنا الراسخ القدم في تراثنا وموروثاتنا، واستوعب النغمات المضافة، فإما ذوبها داخله كأنها لم تكن، أو رفضها فماتت القطع الموسيقية المفبركة واندثرت سريعا بعدم تقبل الأذن السودانية لها، وظل كما هو سلمنا الخماسي العتيد، وظلت موسيقانا السودانية تحمل هويتنا وسحنتنا وصدق تراب أرضنا.
إن موسيقانا السودانية تتميز بنكهة فريدة وجرس محلي لا تتشاركه مع أي من موسيقى الشعوب المختلفة، حتى تلك التي تشترك معنا في استخدام سلمنا المسمى بالخماسي، فإن حاولنا نزع هذه النكهة عنها أو إسكات هذا الجرس الفريد داخلها، ماعادت هي نفسها، ولنبحث لها إذن عن مسمى وعن شعب يدعيها وتمثله. فرغم قربنا والتصاقنا بجيراننا في الشرق الإفريقي، وحبنا لموسيقاهم وتذوقهم وترديدهم لموسيقانا، إلا أننا نميز موسيقانا عن موسيقاهم دون أي عناء، ولا تختلطان علينا أبدا، ويرجع ذلك للجرس المحلي والنكهة الوطنية التي تحملها موسيقانا وتمتزج بها، فلا تكاد تسمع نغمات قليلة إلا وينبض فيك إحساس داخلي ينبهك أن هذا اللحن سوداني، بل إن سمعت لحنا سودانيا يؤديه مغن أثيوبي مثلا، لما اختلط عليك الأمر، ولعرفت فورا أنه أثيوبي يغني أغنية سودانية، ففي داخل طيات موسيقانا تكمن هويتنا الوطنية ويمتد إرثنا الحضاري المتغلغل في عمق التاريخ.
أما عن المتلقي المستمع، فإنه ذلك المستمع العادي الذي يغني له المغنون ويموسق له المموسقون. المستمع الذي يمثل عدده نسبة طاغية قد تماثل التسع والتسعين بالمائة من مجموع الشعب السوداني، رغم ابتلائنا بظاهرة المئات ممن يدعون الغناء، وهم في ازدياد، وليس لهم بفن الغناء صلة، بل هم وصمة في جبين الفن السوداني، وبثرة سوف يأتي يوم اقتلاعها. المستمع الذي به تناقلت الأجيال تراثنا الخالد وتداولت السنون ما خط الأولون من روادنا العباقرة، وما أرسوا من صفات وآثار شامخات ليس لها مثيل، وهو من تعيث بأذنه وسمعه جل أجيالنا الحاضرة فسادا وتدميرا، فقد قادوه للقبول بالغث الرخيص، وأجبروه أن يسمع ما تربأ نفس أي فنان حقيقي بالتدني لدركه السحيق، فقد صار بعض المغنين يتناولون غناء تافها غير ذي معنى، ويرددون كلاما لا يحمل إلا أسافل القول، وتبعهم من الموسيقيين في غيهم، من تدفعهم هبات من المال إلى نكران أنفسهم والتجرد من روح الفن فيهم، وإتباع من يدفع والسير في ركبه، وتدمير فننا وحضارتنا وما أرسى العباقرة الأولون منا.
ولكن يبقى المستمع السوداني هو المظلوم، إذ أنه المتلقي لكل غث هزيل يسميه صناعه فنا، ولكل سيئ ردئ يسميه رواده غناء، حتى تدنى مستوى سمعه وخاب ظنه في تلقي الجيد الحسن، فصار يقبل ما يقدم له على علاته، وقد طغت على الحسنات. ولكني أؤمن بصدق أن كل من يستمع للموسيقى فنان، وبما أنه ليس هنالك في ظني من لا يستمع للموسيقى، إذن فليس هنالك من ليس بفنان، والمستمع السوداني فنان، وسوف يأتي يوم قريب يصم أذنه عن هذا الغي والعبث بموروثاتنا، ويدك بقدميه كل عابث يمرغ بالتراب فننا أو موسيقانا، ولا يتقبل إلا الجيد الراقي من الفنون.
أردت بهذه التقدمة أن أربط موروثاتنا بعضها بالبعض، فالموسيقى والغناء من العلوم التي تورث قبل أن تدرس.